الحوار الشعري من سفر أيوب

ان كاتب الحوار أطلق العنان للألم الذي يستولي عادة على العقل البشري حين يواجه لغز العذاب ولم يغفل عن العثار العقلي والمعنوي الذي أقلق الدين اليهودي منذه ظهوره في التاريخ والذي لا يزال يقلق البشر

ان شاعر سفر أيوب يخاطب انسانية جميع الازمنة لأنه لم يقتصر على مجابهة عثار الحياة والموت بل وصف ايضاً رجل الايمان الذي في اثناء نزاعه يقارب التجديف ويلتمس في الوقت نفسه حضور اله محب والصمت الالهي هو الالم الأخير وهو شر من ان يعزل الانسان عن منصبه ويفقد اولاده وينبذ من المجتمع ولا تفهمه الزوجة والاصقاء ويعاني اهوال مرض قتال

هناك موضوع آخر يضاف الى هذا الموضوع فان أيوب يطالب مطالبة حق بأن يعترف علناً بنزاهته ويخالف بكائي المراالمرائي الذين يسالون بشتى الانواع في كتاب المزامير أن ينقذوا من شرورهم فهو لا يطلب سوى ان يعترف الله ببراءته

ليس ايوب مثالاً للفضلية بل هو مثال لعزة النفس أيضاً وعزة النفس هذه تزداد حدة بتأثير الحملات الحملات الخبيثة التي يشنها المرض والألم المعنوي فتتحول شيئاً فشيئاً الى كبرياء فائقة 

أيوب يشبه نفسه بالبحر والتنين أبحر أنا أم تنين حتى تجعل حولي حرساً ؟ سفر ايوب 7 12 ورد في النظريات البابلية في نشأة الكون أن تيامات البحر بعد ان ساهم في ولادة الالهة غلبه وأخضعه واحد منهم وقد تناولت المخلية الشعبية او الشعرية هذه الصور ونسبت الى الرب هذا الانتصار السابق لتنظيم الخواء ورأت فيه ذلك الذي لا يزال يخضع البحر وسكانه الوحوش الذي فيه قيده أله النظام كما ورد في الاساطير الاكدية رغبة منه في حماية حدود المعمور

لقد أدرك أليفاز ما هو البعد الجديد للعنف الذي يحمل الانسان ذا الاخلاق السليمة وهو في حدة محنته على الاعتقاد في نفسه بأنه نصف إله انه يشير بوضوح الى اسطورة الانسان الأولى فيطرح على ابواب هذا السؤال أتراك آدم اول من ولد ؟ أتراط ولدت قبل التلال ؟

لا ينثني البطل أبداً بل يستمر في المطالبة لا للشفاء فقط بل للتبرئة من التهم التي تلصق به بل ان هذه الرغبة العنيدة هي التي تحمله على ان يحطم لوقت قصير ذلك الاعتقاد التقليدي بالطابع النهائي الذي يتسم به الموت مع أنه كان قد تبنى هذا الاعتقاد دائماً ولم لا تتحمل معصيتي ولا تنقل عني أثمي ؟ فاني لا ألبث أن اضجع في التراب فتبكر في طلبي فلا أكون سفر ايوب 7 / 21 هذه الكلمات الأخيرة غير منتظرة فهي تعود الى صورة إله يميل الى الانسان ميلاً خفياً أما الرجل فاذا مات بقي بلا حراك وآبن أدم متى فاضت روحه فأين يوجد ؟ سفر ايوب 14 / 10 

وبعد ان أعلن أن له شاهداً في السموات يدافع عنه في وجه الله نفسه

( أيتها الأرض لا تستري دمي ولا يكن لصراخي قرار لي منذ الآن شاهد في السماء ومحام عني في الأعالي ان الساخرين مني هم أصدقائي ولكن الى الله تفيض عيناي فليدافع هو عن رجل في صراع مع الله كما يدافع آبن البشر عن صديقه سفر ايوب 16 / 18  21 )

نادى أخيراً بيقينه من أن فاديه سقوم حياً بعد لفظ أنفاسه الأخيرة وهو على حافة القبر ليمكنه من مشاهدة الله فادي حي وسيقوم الأخير على التراب وبعد أن يكون جلدي قد تمزق أعاين الله في جسدي سفر ايوب 19 / 25 - 26 فادي في العبرية جوئيل وهي من مفردات الشرع الاسرائيلي وكثيراً ما تنسب الى الله مخلص شعبه والمنتقم للمظلومين نسبها الدين اليهودي عند الربانيين الى المسيح ومن هنا ترجمة القديس هيرونيمس بالفادي

لقد مات جميع ذويه أو خذلوه نوعاً ما اي أيوب فلم يبق أي وريث بشري يفدي شرفه بهد موته ومع ذلك فهو على علم بأن كائناً عجيباً سيقوم بهذا العمل

( أبعد إخواني عني فاعتزلتني معارفي خذلني ذوو قرابتي والذين ألفتهم قد نسوني حسبني نزلاء بيتي وإمائي غريبا وأصبحت أجنبيا في أعينهم دعوت عبدي فلم يجب وبفمي تضرعت إليه قد صار نفسي خبيثا عند امرأتي وأمسيت منتنا لأبناء أحشائي حتى الصبيان ازدروني أقوم فيتكلمون علي قد مقتني أمناء سري والذين أحببتهم انقلبوا علي لصقت عظامي بلحمى ونجوت بجلد أسناني إرحموني ارحموني أنتم يا أصدقائي فإن يد الله قد مستني لم تطاردونني مثل الله ولا تشبعون من لحمي؟ سفر ايوب 19 / 13 - 22 )

كان الفادي بحسب شرع العرف والعادة القديم أحداً من ذوي الميت وكان من واجبه ان ينتقم للدم المسفوك ومن هنا فادي الدم او أن يحفظ بالشراء الشرعي سلامة ألاض الاجداد

( قالت المرأة للملك داود أذكر أيها الملك الرب إلهك فلا يكثر المنتقم للدم الدمار ويهلك ابني فقال الملك داود للمرأة حي الرب إنها لا تسقط من ابنك على الأرض سفر صموئيل الثاني 14 / 11 ) فقالت نعمي لكنتها راعوث باركه الرب الذي لم تنصرف رحمته عن الأحياء والأموات ثم قال لها نعمي ان الرجل هو ذو قرابة لنا وهو من أقربائنا سفر راعوث 2 / 20 )

بالرغم من ان بعض ألفاظ هذه الفقرة التي أصبحت الآن مشهورة لم تحفظ حفظاً حسناً في المخطوطات وأن الترجمات القديمة لا تفيدنا إلا قليلاً فالنص العبري الجزء الثاني من الآية اعلاه لا غبار عليه أعاين الله في جسدي

من السهل لماذا قرأ المسيحيون الأولون في هذه الاية المذكورة أعلاه تمهيداً للايمان بقيامة الجسد وصورة سابقة ل فادٍ يتغلب على الموت

في القرن السادس قبل الميلاد يرجح ان العبارة في جسدي كانت تعني الانسان في هويته الواقعية التامة وتكرارً الجملة التابعة في الآية 27 اعلاه يثبت هذا الراي ومهما يكن من أمر فان هذا الأمر هو الذي أولى الايمان بالحياة المقبلة

عند اليهود والمسيحيين الأولين صيغة تختلف كل الاختلاف عن الفكرة الهلينية لخلود النفس فالاعتقاد بقيامة الجسد يفترض وجود رجاء واقعي يحياة اتحاد بالله تتعارض مع الشكل الغامض والخالي من الجوهر الذي يوحي به التأمل النظري غير العبري في النفس الخالدة يضاف الى ذلك ان هذا الاعتقاد يفترض سلفاً وجود عمل ابداعي جديد من قبل الله من دون ان يحسب الخلود حقاً ملازماً للطبيعة البشرية

ان تفسيرات قانون الايمان هذا متفاوتة جداً ولكن لا شك ان الشاعر الأيوبي قد أعد منذ فجر الدين اليهودي تفكراً لاهوتياً للوساطة بين اله يبدو معادياً ومتنائياً من جهة وانسان متروك في العالم من جهة اخرى

( من لي بأن تكتب أقوالي ومن لي بأن تحفر في سفر بإزميل من حديد وبالرصاص أن تنقش في الصخر للأبد؟فادي حي وسيقوم الأخير على التراب وبعد أن يكون جلدي قد تمزق أعاين الله في جسدي أعاينه أنا بنفسي وعيناي تريانه لا غيري قد فنيت كليتاي في داخلي سفر ايوب 19 / 23 - 27 )

يمكننا الافتراض أنه ينسب الى بطله أملاً كان يهمه كثيراً فلقد نجح في التعبير عنه بحسب تدرج ثلاثي الأول حلم صعب المنال لحكم يضع يده على الله وعلى الانسان ليقمهما الواحد امام الآخر ويقوم هكذا بعمل المصالح لو كان بيننا حكم يجعل يده على كلينا سفر ايوب 9 / 33 ثم الاعتقاد بأن ايوب بعد قتله ينال شاهده في المحكمة العليا دفاعاً بعد موته وأخيراً اليقين الذي لا يتزعزع من حضور فادٍ في اللحظة الأخيرة لا يكتفي بفداء شرفه بل يمكنه أيضاً من معاينة الله

سفر ايوب 16 / 12 - 21

( وإنما الحكمة عند الأشيب والفطنة في طول الأيام الله عنده الحكمة والجبروت وله المشورة والفطنة ما هدمه لا يبنى ومن أغلق عليه لا يفتح له يحبس المياه فتجف أو يطلقها فتخرب الأرض عنده العزة والفطنة وله الضال ومن يضله يسوق المشيرين مجردين ويجعل القضاة مجانين يحل قبضة الملوك فيربط إزارا على أحقائهم يسوق الكهنة مجردين ويقلب الراسخين يقطع ألسنة الثقات ويسلب ذوق الشيوخ يصب العار على الكرماء ويرخي مناطق الأقوياء )

سفر ايوب 19 / 25 - 27

( فادي حي وسيقوم الأخير على التراب وبعد أن يكون جلدي قد تمزق أعاين الله في جسدي أعاينه أنا بنفسي وعيناي تريانه لا غيري قد فنيت كليتاي في داخلي )

يحافظ البطل حتى خاتمة ظفاعه الطويل على كرامة انسان لا يداخله اي شعور بالذهب فكل ما يتذكر هو هفوات حداثته فسيستقبل الاله وهو متسربل بجلال ملكي وسيذهب لملاقاة القدير وهو كالرئيس أو كالأمير هل كتمت معصيتي كما يفعل الناس إضمارا للإثم في صدري سفر ايوب 31 / 33

اعداد الشماس سمير كاكوز

تعليقات